الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **
ثم إن الأفرم نائب الشام أرسل إلى قرا سنقر وإلى قبجق شخصًا من مماليكه بصورة الحال فأما قراسنقر نائب حلب فإنه لما سمع الواقعة وقرأ كتاب الأفرم قال: أيش الحاجة إلى مشاورتنا! أستاذك بعثك بعد أن حلف وكان ينبغي أن يتأنى في ذلك وأما قبجق نائب حماة فإنه لما قرأ كتاب الأفرم قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم أيش جرى على آبن أستاذنا حتى عزل نفسه! والله لقد دبرتم أنحس تدبير هذه والله نوبة لاجين. ثم قال لمملوك الأفرم: اذهب إلى أستاذك وقل له: الآن بلغت مرادك وسوف تبصر من يصبح ندمان وفي أمره حيران! وكذلك لما بعث الأفرم لأسندمر نائب طرابلس فلما قرأ كتابه أطرق رأسه إلى الأرض ثم قال: أذهب لأستاذك وقل له: يا بعيد الذهن وقليل العلم بعد أن دبرت أمرًا فما الحاجة إلى مشاورتنا! فوالله ليكونن عليك أشأم التدبير وسيعود وباله عليك ولم يكتب له جوابًا. وأما قرا سنقر نائب حلب فإنه أرسل إلى قبجق وإلى أسندمر يعلمهما أن الأفرم حلف عساكر دمشق على طاعة بيبرس ولا نأمن أن يعمل الأفرم علينا فهلموا نجتمع في موضع واحد فنتشاور ونرى أمرًا يكون فيه المصلحة فاتفقوا الجميع على أن يجتمعوا في حلب عند قرا سنقر وعينوا ليلة يكون اجتماعهم فيها. فأما قبجق فإنه ركب إلى الصيد بمماليكه خاصة وتصيد إلى الليل فسار إلي حلب. وأما أسندمر أظهر أنه ضعيف وأمر ألا يخلي أحدًا يدخل عليه وفي الليل ركب بمماليكه الذين يعتمد عليهم وقد غيروا ملابسهم وسار يطلب حلب. واجتمع الجميع عند قرا سنقر فقال لهم قرا سنقر: ما تقولون في هذه القضية التي جرت. فقال قبجق: والله لقد جرى أمر عظيم وإن لم نحسن التدبير نقع في أمور! يعزل آبن أستاذنا ويأخذها بيبرس! ويكون الأفرم هو مدبر الدولة! وهو على كل حال عدونا ولا نأمن شره فقالوا: فما نفعل قال: الرأي أن نكتب إلى ابن أستاذنا في الكرك ونطلبه إلى حلب ونركب معه فإما نأخذ له الملك وإما أن نموت على خيولنا! ففال أسندمر: هذا هو الكلام فحلف كل من الثلاثة على هذا الاتفاق ولا يقطع واحد منهم أمرًا إلا بمشورة أصحابه وأنهم يموت بعضهم على بعض ثم إنهم تفرقوا في الليل كل واحد إلى بلده. وأما الأمراء الذين خرجوا من مصر إلى النواب بالبلاد الشامية بالخلع وبسلطنة بيبرس فإنهم لما وصلوا إلى دمشق قال لهم الأفرم: أنا أرسلت إليهم مملوكي فردوا علي جوابًا لا يرضى به مولانا السلطان. وكان الأفرم أرسل إلى الملك المظفر بيبرس نسخة اليمين التي حلف بها أمراء دمشق مع مملوكه مغلطاي فأعطاه الملك المظفر إمرة طبلخاناه وخلع عليه وأرسل معه خلعة لأستاذه الأفرم بألف دينار وأطلق له شيئًا كثيرًا كان لبيبرس في الشام قبل سلطنته من الحواصل والغلال فسر الأفرم بذلك غاية السرور ثم قال الأميران اللذان وصلا إلى دمشق للأفرم: ما تشير به علينا فقال لهما: ارجعا إلى مصر ولا تذهبا إلى هؤلاء فإن رؤوسهم قوية وربما يثيرون فتنة فقالا: لا غنى لنا عن أن نسمع كلامهم ثم إنهما ركبا من دمشق وسارا إلى حماة ودخلا على قبجق ودفعا له كتاب الملك المظفر فقرأه ثم قال: وأين كتاب الملك الناصر فأخرجا له الكتاب فلما وقف عليه بكى ثم قال: من قال إن هذا خط الملك الناصر والله واحد يكون وكيلًا في قرية ما يعزل نفسه منها بطيبة من خاطره! ولا بد لهذا الأمر من سبب اذهبا إلى الأمير قرا سنقر فهو أكبر الأمراء وأخبرهم بالأحوال فركبا وسارا إلى حلب واجتمعا بقراسنقر فلما قرأ كتاب المظفر قال: يا إخوتي إنا على أيمان آبن أستاذنا لا نخونه ولا نحلف لغيره ولا نواطىء عليه ولا نفسد ملكه فكيف نحلف لغيره! والله لا يكون هذا أبدًا ودعوا يجري ما يجري وكل شيء ينزل من السماء تحمله الأرض ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! فخرجا من عنده وسارا إلى طرابلس ودخلا على أسندمر فقال لهما مثل مقالة قبجق وقراسنقر فخرجا وركبا وسارا نحو الديار المصرية ودخلا على الملك المظفر بيبرس وأعلماه بما كان فضاق صدر المظفر وأرسل خلف الأمير سلار النائب وقص عليه القصة فقال له سلار: هذا أمر هين ونقدر أن نصلح هؤلاء فقال: وكيف السبيل إلى ذلك. قال: تكتب إلى قرا سنقر كتابًا وترقق له في الكلام وأرسل إليه تقليدًا بنيابة حلب وبلادها وأنه لا يحمل منه الدرهم الفرد وكذا لقبجق بحماة ولأسندمر بطرابلس والسواحل فقال بيبرس: إذا فرقت البلاد عليهم ما يساوي ملكي شيئًا! فقال له سلار: وكم أمن يد تقبل عن ضرورة وهي تستحق القطع! فآسمع مني وأرضهم في هذا الوقت فإذا قدرت عليهم بعد ذلك افعل بهم ما شئت فمال المظفر إلى كلامه وأمر أن يكتب بما قاله سلار لكل واحد على حدته فكتب ذلك وأرسله مع بعض خواصه. وأما أمر الملك الناصر محمد بن قلاوون فإن الملك المظفر لما تسلطن وتم أمره كتب له تقليدًا بالكرك وسيره له على يد الأمير آل ملك ومنشورًا بما عين له من الإقطاعات. وأما أمر قرا سنقر فإنه جهز ولده محمدًا إلى الملك الناصر محمد بالكرك وعلى يده كتابه وكتاب قبجق نائب حماه وكتاب أسندمر نائب طرابلس. ومضمون كتاب قرا سنقر: أنه يلوم الملك الناصر عن نزوله عن الملك وكيف وقع له ذلك ولم يشاوره في أول الأمر ثم وعده برجوع ملكه إليه عن قريب وأنه هو وقبجق وأسندمر ما حلفوا للمظفر وأنهم مقيمون على أيمانهم له. وكذلك كتاب قبجق وكتاب أسندمر فأخذ الأمير ناصر الدين محمد بن قرا سنقر كتب الثلاثة وسار مسرعًا ومعه نجاب خبير بتلك الأرض فلم يزالا سائرين في البرية والمفاوز إلى أن وصلا إلى الكرك وآبن قرا سنقر عليه زي العرب فلما وقفا على باب الكرك سألوهما من أين أنتما فقالا: من مصر فدخلوا وأعلموا الملك الناصر محمدًا بهما واستأذنوه في إحضارهما فأذن لهما بالدخول فلما مثلا بين يديه كشف ابن قرا سنقر لثامه عن وجهه فعرفه السلطان وقال له: محمد فقال: لبيك يا مولانا السلطان وقبل الأرض وقال: لا بد من خلوة فأمر السلطان لمن حوله بالانصراف فعند ذلك حدث ابن قرا سنقر السلطان بما جرى من أبيه وقبجق وأسندمر وأنهم آجتمعوا في حلب وتحالفوا بأنهم مقيمون على الأيمان التي حلفوها للملك الناصر ثم دفع له الكتب الثلاثة فقرأها ثم قال: يا محمد ما لهم قدرة على ما آتفقوا عليه فإن كل من في مصر والشام قد آتفقوا على سلطنة بيبرس فلما سمع ابن قراسنقر ذلك حلف بأن كل واحد من هؤلاء الثلاثة كفء لأهل مصر والشام ومولانا السلطان أخبر بذلك مني فتبسم السلطان وقال صدقت يا محمد ولكن القائل يقول: # كن جريًا إذا رأيت جبانًا ** وجبانًا إذا رأيت جريا لا تقاتل بواحد أهل بيت فضعيفان يغلبان قويا وهذه البلاد كلها دارت مع بيبرس ولا يتم لنا الحال إلا بحسن التدبير والمداراة والصبر على الأمور. ثم إنه أنزله في موضع وأحسن إليه وقال له: استرح اليوم وغدًا ثم سافر فأقام يومين ثم طلبه الملك الناصر في صبيحة اليوم الثالث وأعطاه جواب الكتب وقال له: سلم على أبي يعني على قرا سنقر وقل له: اصبر ثم خلع عليه خلعة سنية وأعطاه ألف دينار مصرية وخلع على معن النجاب الذي أتى به أيضًا وأعطاه ألف درهم فخرج آبن قرا سنقر والنجاب معه وأسرعا في السير إلى أن وصلا إلى حلب فدخل آبن قراسنقر إلى أبيه ودفع له كتاب الملك الناصر ففتحه فإذا فيه: " ولا تقطع كتبك عني في كل وقت وعرفني بجميع ما يجري من الأمور قليلها وكثيرها ". وكذلك كتب في كتاب قبجق وأسندمر فعرف قرا سنقر مضمون كتابه ثم بعد قليل وصل إلى قرا سنقر من الملك المظفر بيبرس تقليد بنيابه حلب وبلادها دربست على يد أمير من أمراء مصر. ومن
: " أنت خشداشي ولو علمت أن هذا الأمر يصعب عليك ما عملت شيئًا حتى أرسلت إليك وأعلمتك به لأن ما في المنصورية أحد أكبر منك غير أنه لما نزل ابن أستاذنا عن الملك آجتمع الأمراء والقضاة وكافة الناس وقالوا: ما لنا سلطان إلا أنت وأنت تعلم أن البلاد لا تكون بلا سلطان فلو لم أتقدم أنا كان غيري يتقدم فآجعلني واحدًا منكم ودبرني برأيك. وهذه حلب وبلادها دربست لك وكذا لخشداشيتك: الأمير قبجق والأمير أسندمر ". وسير الملك المظفر لكل من هؤلاء الثلاثة خلعة بألف دينار وفرشًا قماشه بألف دينار وعشرة رؤوس من الخيل. فعند ذلك حلف قرا سنقر وقبجق وأسندمر ورجع الأمير المذكور إلى مصر بنسخة اليمين. فلما وقف عليها الملك المظفر فرح غاية الفرح وقال: الآن تم لي الملك. ثم شرع من يومئذ في كشف أمور البلاد وإزالة المظالم والنظر في أحوال الرعية. ثم آستهلت سنة تسع وسبعمائة وسلطان الديار المصرية الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير المنصوري والخليفة المستكفي بالله أبو الربيع سليمان ونائب السلطنة بديار مصر الأمير سلار ونائب الشام الأمير آقوش الأفرم الصغير ونائب حلب الأمير شمس الدين قرا سنقر المنصوري ونائب حماة الأمير سيف الدين قبجق المنصوري ونائب طرابلس الأمير سيف الدين أسندمر المنصوري. ثم فشا في الناس في السنة المذكورة أمراض حادة وعم الوباء الخلائق وعز سائر ما يحتاج إليه المرضى. ثم توقفت زيادة النيل إلى أن دخل شهر مسري وآرتفع سعر القمح وسائر الغلال ومنع الأمراء البيع من شونهم إلا الأمير عز الدين أيدمر الخطيري الاستادار فإنه تقدم إلى مباشريه ألا يتركوا عنده سوى مؤونة سنة واحدة وباع ما عداه قليلًا قليلًا. والخطيري هذا هو صاحب الجامع الذي بخط بولاق. انتهى. وخاف الناس أن يقع نظير غلاء كتبغا وتشاءموا بسلطنة الملك المظفر بيبرس المذكور. ثم إن الخطيب نور الدين علي بن محمد بن الحسن بن علي القسطلاني خرج بالناس وآستسقى وكان يومًا مشهودًا فنودي من الغد بثلاث أصابع ثم توقفت الزيادة مدة ثم زاد وانتهت زيادة النيل فيه إلى خمس عشرة ذراعًا وسبع عشرة إصبعًا في سابع عشرين توت ثم نقص في أيام النسيء وجاء النوروز ولم يوف النيل ست عشرة ذراعًا ففتح سد الخليج في يوم الجمعة ثامن توت وهو ثامن عشرين شهر ربيع الأول. وذكر بعضهم أنه لم يوف إلى تاسع عشر بابه وهو يوم الخميس حادي عشر جمادى الأولى وذلك بعد اليأس منه وهذا القول هو الأشهر. قال: وآنحط مع سلطاننا ركين ونائبنا دقين يجينا الماء منين جيبوا لنا الأعرج يجيء الماء ويدحرج ومن يومئذ وقعت الوحشة بين المظفر وبين عامة مصر وأخذت دولة الملك المظفر بيبرس في آضطراب وذلك أنه كثر توهمه من الملك الناصر محمد بن قلاوون وقصد في أيامه كل واحد من خشداشيته أن يترقى إلى أعلى منزلة واتهموا الأمير سلار بمباطنة الملك الناصر محمد وحذروا الملك المظفر منه وحسنوا له القبض على سلار المذكور فجبن بيبرس عن ذلك. ثم ما زالوا حتى بعث الأمير مغلطاي إلى الملك الناصر محمد بن قلاوون بالكرك ليأخذ منه الخيل والمماليك التي عنده وتغلظ في القول فغضب الملك الناصر من ذلك غضبًا شديدًا وقال له: أنا خليت ملك مصر والشام لبيبرس ما يكفيه حتى ضاقت عينه على فرس عندي ومملوك لي ويكرر الطلب! ارجع إليه وقل له: والله لئن لم يتركني وإلا دخلت بلاد التتار وأعلمهم أني تركت ملك أبي وأخي وملكي لمملوكي وهو يتابعني ويطلب مني ما أخذته. فجافاه مغلطاي وخشن له في القول بحيث اشتد غضب الملك الناصر وصاح به: ويلك وصلت إلى هنا! وأمر أن يجر ويرمى من سور القلعة فثار به المماليك يسبونه ويلعنونه وأخرجوه إلى السورة فلم يزل به أرغون الدوادار والأمير طغاي إلى أن عفا عنه وحبسه ثم أخرجه ماشيًا. وعظم ذلك على الملك الناصر وكتب ملطفات إلى نواب البلاد الشامية بحلب وحماة وطرابلس وصفد ثم إلى مصر ممن يثق به وذكر ما كان به من ضيق اليد وقلة الحرمة وأنه لأجل هذا ترك ملك مصر وقنع بالإقامة بالكرك وأن السلطان الملك المظفر في كل وقت يرسل يطالبه بالمماليك والخيل التي عنده. ثم ذكر لهم في ضمن الكتاب: " أنتم مماليك أبي وربيتموني فإما أن تردوه عني وإلا سرت إلى بلاد التتار " وتلطف في مخاطبتهم غاية التلطف وسير لهم بالكتب على يد العربان فأوصلوها إلى أربابها. وكان قد أرسل الملك المظفر قبل ذلك يطلب منه المال الذي كان بالكرك والخيل والمماليك التي عنده حسب ما يأتي ذكره في ترجمة الملك الناصر محمد فبعث إليه الملك الناصر بالمبلغ الذي أخذه من الكرك فلم يقنع المظفر بذلك وأرسل ثانيًا وكان الملك الناصر لما أقام بالكرك صار يخطب بها للملك المظفر بيبرس بحضرة الملك الناصر والملك الناصر يتأدب معه ويسكت بحضرة مماليكه وحواشيه. وصار الملك الناصر إذا كاتب الملك المظفر يكتب إليه: " الملكي المظفري " وقصد بذلك سكون الأحوال وإخماد الفتن والمظفر يلح عليه لأمر يريده الله تعالى حتى كان من أمره ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وأما النواب بالبلاد الشامية فإن قرا سنقر نائب حلب كتب إلى الملك الناصر الجواب: " بأني مملوك السلطان في كل ما يرسم به " وسأل أن يبعث إليه بعض المماليك السلطانية وكذلك نائب حماة ونائب طرابلس وغيرهما ما خلا بكتمر الجوكندار نائب صفد فإنه طرد قاصد الملك الناصر ولم يجتمع به. ثم أرسل الملك الناصر مملوكه أيتمش المحمدي إلى الشام وكتب معه ملطفات إلى الأمير قطلوبك المنصوري وبكتمر الحسامي الحاجب بدمشق ولغيرهما ووصل أيتمش إلى دمشق خفية ونزل عند بعض مماليك قطلوبك المذكور ودفع إليه الملطف فلما أوصله إلى قطلوبك أنكر عليه وأمره بالاحتفاظ على أيتمش المذكور ليوصله إلى الأفرم نائب الشام ويتقرب إليه بذلك فبلغ أيتمش الخبر فترك راحلته التي قدم عليها ومضى إلى دار الأمير بهادر آص في الليل فآستأذن عليه فأذن له فدخل إليه أيتمش وعرفه ما كان من قطلوبك في حقه فطيب بهادر آص خاطره وأنزله عنده وأركبه من الغد معه إلى الموكب وقد سبق قطلوبك إلى الأفرم نائب الشام وعرفه قدوم مملوك الملك الناصر إليه وهروبه من عنده ليلًا فقلق الأفرم من ذلك وألزم والي المدينة بتحصيل المملوك المذكور فقال بهادر آص: " هذا المملوك عندي " وأشار إليه فنزل عن فرسه وسلم على الأفرم وسار معه في الموكب إلى دار السعادة وقال له بحضرة الأمراء: السلطان الملك الناصر يسلم عليك ويقول: ما منكم أحد إلا وأكل خبز الملك الشهيد قلاوون وما منكم إلا من إنعامه عليه وأنتم تربية الشهيد والده وأنه قاصد الدخول إلى دمشق والإقامة بها فإن كان فيكم من يقاتله ويمنعه العبور فعرفوه. فلم يتم هذا القول حتى صاح الكوكندي الزراق أحد أكابر أمراء دمشق: " وا ابن أستاذاه! " وبكى فغضب الأفرم نائب الشام عليه وأخرجه ثم قال الأفرم لأيتمش: قل له يعني الملك الناصر: كيف يجيء إلى الشام أو إلى غير الشام! كأن الشام ومصر الآن تحت حكمك أنا لما أرسل إلي السلطان الملك المظفر أن أحلف له ما حلفت حتى سيرت أقول له: كيف يكون ذلك وآبن أستاذنا باق! فأرسل يقول: أنا ما تقدمت عليه حتى خلع آبن أستاذنا نفسه وكتب خطه وأشهد عليه بنزوله عن الملك فعند ذلك حلفت له. ثم في هذا الوقت تقول: من يردني عن الشام! ثم أمر به الأفرم فسلم إلى استاداره الطنقش. فلما كان الليل آستدعاه ودفع له خمسين دينارًا وقال: قل له: " لا تذكر الخروج من الكرك " وأنا أكتب إلى المظفر وأرجعه عن الطلب ثم أطلقه فعاد أيتمش إلى الكرك وأعلم الملك الناصر بما وقع. فأعاده الملك الناصر على البريد ومعه أركتمر وعثمان الهجان ليجتمع بالأمير قرا سنقر نائب حلب ويواعده على المسير إلى دمشق ثم خرج الملك الناصر من الكرك وسار إلى بركة زيزاء فنزل بها. وأما الملك المظفر بيبرس صاحب الترجمة فإنه لما بلغه أن الملك الناصر حبس قاصده مغلطاي المقدم ذكره قلق من ذلك واستدعى الأمير سلار وعرفه ذلك وكانت البرجية قد أغروا المظفر بيبرس بسلار واتهموه أنه باطن الملك الناصر وحسنوا له القبض عليه حسب ما ذكرناه فجبن الملك المظفر من القبض عليه. وبلغ ذلك سلار فخاف من البرجية لكثرتهم وقوتهم وأخذ في مداراتهم وكان أشدهم عليه الأمير بيكور وقد شرق إقطاعه فبعث إليه سلار بستة آلاف إردب غلة وألف دينار فكف عنه. ثم هادى خواص المظفر وأنعم عليهم. فلما حضر سلار عند المظفر وتكلما فيما هم فيه فآقتضى الرأي إرسال قاصد إلى الملك الناصر بتهديده ليفرج عن مغلطاي. وبينما هم في ذلك قدم البريد من دمشق بأن الملك الناصر سار من الكرك إلى البرج الأبيض ولم يعرف أحد مقصده فكتب الجواب في الحال بحفظ الطرقات عليه. وآشتهر بالديار المصرية حركة الملك الناصر محمد وخروجه من الكرك فماجت الناس وتحرك الأمير نوغاي القبجاقي وكان شجاعًا مقدامًا حاد المزاج قوي النفس وكان من ألزام الأمير سلار النائب وتواعد مع جماعة من المماليك السلطانية أن يهجم بهم على السلطان الملك المظفر إذا ركب ويقتله. فلما ركب المظفر ونزل إلى بركة الجب آستجمع نوغاي بمن وافقه يريدون الفتك بالمظفر في عوده من البركة وتقرب نوغاي من السلطان قليلًا قليلًا وقد تغير وجهه وظهر فيه أمارات الشر ففطن به خواص المظفر وتحلقوا حول المظفر فلم يجد نوغاي سبيلًا إلى ما عزم عليه. وعاد الملك المظفر إلى القلعة فعرفه ألزامه ما فهموه من نوغاي وحسنوا له القبض عليه وتقريره على من معه. فاستدعى السلطان الأمير سلار وعرفه الخبر وكان نوغاي قد باطن سلار بذلك فحذر سلار الملك المظفر وخوفه عاقبة القبض على نوغاي وأن فيه فساد قلوب جميع الأمراء وليس الرأي إلا الإغضاء فقط. وقام سلار عنه فأخذ البرجية بالإغراء بسلار وأنه باطن نوغاي ومتى لم يقبض عليه فسد الحال. وبلغ نوغاي الحديث فواعد أصحابه على اللحاق بالملك الناصر وخرج هو والأمير مغلطاي القازاني الساقي ونحو ستين مملوكًا وقت المغرب عند غلق باب القلعة في ليلة الخميس خامس عشر جمادى الآخرة من سنة تسع وسبعمائة المذكورة. وقيل في أمر نوغاي وهروبه وجه آخر: قال الأمير بيبرس الدوادار في تاريخه: تسحب من الديار المصرية إلى الكرك المحروس سيف الدين نوغاي القفجاقي أحد المماليك السلطانية وسيف الدين تقطاي الساقي وعلاء الدين مغلطاي القازاني وتوجه معهم من المماليك السلطانية بالقلعة مائة وستة وثلاثون نفرًا وخرجوا طلبًا واحدًا بخيلهم وهجنهم وغلمانهم وتركوا بيوتهم وأولادهم. انتهى. وقال غيره: لما ولي الملك المظفر بيبرس السلطنة بقي سلار هو الملك الظاهر بين الناس والملك المظفر بيبرس من وراء حجاب فلما كان في بعض الأيام دخل على الملك المظفر أميران: أحدهما يسمى نوغاي والآخر مغلطاي فباسا الأرض بين يديه وشكوا له ضعف أخبازهما فقال لهما المظفر: اشكوا إلى سلار فهو أعلم بحالكما مني فقالا: خلد الله ملك مولانا السلطان أهو مالك البلاد أم مولانا السلطان! فقال: اذهبا إلى سلارة ولم يزدهما على ذلك. فخرجا من عنده وجاءا إلى سلار وأعلماه بقول الملك المظفر فقال سلار: ولله يا أصحابي أبعدكما بهذا الكلام وأنتما تعلمان أن النائب ما له كلام مثل السلطان. وكان نوغاي شجاعًا وعنده قوة بأس فأقسم بالله لئن لم يغيروا خبزه ليقيمن شرًا تهرق فيه الدماء ثم خرجا من عند سلار. وفي الحال ركب سلار وطلع إلى عند الملك المظفر وحدثه بما جرى من أمر نوغاي ومغلطاي وقال: هذا نوغاي يصدق فيما يقول لأنه قادر على إثارة الفتنة فالمصلحة قبضه وحبسه في الحبس فاتفقوا على قبضه. وكان في ذلك الوقت أمير يقال له أنس فسمع الحديث فلما خرج أعلم نوغاي بذلك فلما سمع نوغاي الكلام طلب مغلطاي وجماعة من مماليك الملك الناصر وقال لهم: يا جماعة هذا الرجل قد عول على قبضنا وأما أنا فلا أسلم نفسي إلا بعد حرب تضرب فيه الرقاب فقالوا له: على ماذا عولت فقال: عولت على أني أسير إلى الكرك إلى الملك الناصر أستاذنا فقالوا له: ونحن معك فحلف كل منهم على ذلك فقال نوغاي وكان بيته خارج باب النصر: كونوا عندي وقت الفجر الأول راكبين وأنتم لابسون وتفرقا فجهز نوغاي حاله في تلك الليلة وركب بعد الثلث الأخير مع مماليكه وحاشيته ثم جاءه مغلطاي القازاني بمماليكه ومعه جماعة من مماليك السلطان الملك الناصر والكل ملبسون على ظهر الخيل. ثم إن نوغاي حرك الطبلخاناه حربيًا وشق من الحسينية فماجت الناس وركبوا من الحسينية وأعلموا الأمير سلار فركب سلار وطلع إلى القلعة وأعلم السلطان بذلك. قال آبن كثير: وكان ذلك بمباطنة سلار مع نوغاي. فلما بلغ المظفر ذلك قال: على أيش توجها " فقال سلار: " على نباح الجراء في بطون الكلاب " والله ما ينظر في عواقب الأمور ولا يخاف آثار المقدور فقال المظفر: " أيش المصلحة " فآتفقوا على تجريد عسكر خلف المتسحبين فجرد في أثرهم جماعة من الأمراء صحبة الأمير علاء الدين مغلطاي المسعودي والأمير سيف الدين قلي في جماعة من المماليك فساروا سيرًا خفيفًا قصدًا في عدم إدراكهم وحفظًا لسلطانهم وآبن سلطانهم الملك الناصر محمد بن قلاوون فلم يدركوهم وأقاموا على غزة أيامًا وعادوا إلى القاهرة. وقال صاحب نزهة الألباب: وجرد السلطان الملك المظفر وراءهم خمسة آلاف فارس صحبة الأمير أخي سلار وقال له المظفر: " لا ترجع إلا بهم ولو غاصوا في البحر! " وكان فيهم الأمير شمس الدين دباكوز وسيف الدين بجاس وجنكلي بن البابا وكهرداش وأيبك البغدادي وبلاط وصاروجا والقرماني وأمير آخر وهؤلاء الأمراء هم خيار عسكر مصر فساروا. وكان نوغيه قد وصل إلى بلبيس وطلب واليها وقال له: " إن لم تحضر لي في هذه الساعة خمسة آلاف دينار من مال السلطان وإلا سلخت جلدك من كعبك إلى أذنك ". ففي الساعة أحضر الذهب وكان نوغيه قد أرصد أناسًا يكشفون له الأخبار فجاؤوا له وذكروا أن عسكرًا عظيمًا قد وصل من القاهرة وهم سائقون فلما سمع نوغيه ذلك ركب هو وأصحابه وقال لوالي بلبيس: قل للأمراء الجائين خلفي: أنا رائح على مهل حتى تلحقوني وأنا أقسم بالله العظيم لئن وقعت عيني عليهم لأجعلن عليهم يومًا يذكر إلى اليوم القيامة! ولم يبعد نوغيه حتى وصل أخو سلار وهو الأمير سمك ومعه العساكر فلاقاهم والي بلبيس وأخبرهم بما جرى له مع نوغيه وقال لهم: ما ركب إلا من ساعة فلما سمعوا بذلك ساقوا إلى أن وصلوا إلى مكان بين الخطارة والسعيدية فإذا بنوغاي واقف وقد صف رجاله ميمنة وميسرة وهو واقف في القلب قدام الكل فلما رآهم سمك أرسل إليه فارسًا من كبار الحلقة وسار إليه الفارس وآجتمع بنوغيه وقال له: أرسلني سمك إليك وهو يقول: " السلطان الملك المظفر يسلم عليك ويقول لك: سبحان الله! أنت كنت أكبر أصحابه فما الذي غيرك عليه. فإن كان لأجل الخبز فما يأكل الخبز أحد أحق منك فإن عدت إليه فكل ما تشتهي يفعله لك ". فلما سمع نوغيه هذا الكلام ضحك وقال: " أيش هذا الكلام الكذب! لما أمس سألته أن يصلح خبزي بقرية واحدة ما أعطاني وأنا تحت أمره فكيف يسمح لي اليوم بما أشتهي وأنا صرت عدوه! فخل عنك هذا الهذيان وما لكم عندي إلا السيف " فرجع الرسول وأعلم سمك بمقالته ثم إن نوغيه دكس فرسه وتقدم إلى سمك وأصحابه وقال له: " إن هؤلاء الذين معي أنا الذي أخرجتهم من بيوتهم وأنا المطلوب فمن كان يريدني يبرز لي وهذا الميدان! " فنظرت الأمراء بعضهم إلى بعض ثم قال: " يا أمراء ما أنا عاص على أحد وما خرجت من بيتي إلا غبنًا وأنتم أغبن مني ولكن ما تظهرون ذلك وها أنتم سمعتم مني الكلام فمن أراد الخروج إلي فليخرج وإلا احملوا علي بأجمعكم " وكان آخر النهار فلم يخرج إليه أحد فرجع إلى أصحابه ونزل سمك في ذلك المكان. فلما أمسى الليل رحل نوغيه بأصحابه وسار مجدًا ليله ونهاره حتى وصل قطيا فوجد واليها قد جمع العربان لقتاله لأن البطاقة وردت عليه من مصر بذلك والعربان الذين جمعهم الوالي نحو ثلاثة آلاف فارس فلما رآهم نوغاي قال لأصحابه: احملوا عليهم وبادروهم حتى لا يأخذهم الطمع فيكم يعني لقلتهم وتأتي الخيل التي وراءكم فحملوا عليهم وكان مقدم العرب نوفل البياضي وفيهم نحو الخمسمائة نفر بلبوس فحملت الأتراك أصحاب نوغاي عليهم وتقاتلا قتالًا عظيمًا حتى ولت العرب وانتصر نوغيه عليهم هو وأصحابه وولت العرب الأدبار طالبين البرية ولحق نوغيه والي قطيا فطعنه وألقاه عن فرسه وأخذه أسيرًا. ثم رجعت الترك من خلف العرب وقد كسبوا وأما سمك فإنه لم يزل يتبعهم بعساكر مصر منزلة بعد منزلة حتى وصلوا إلى قطيا فوجدوها خرابًا وسمعوا ما جرى من نوغيه على العرب فقال الأمراء: الرأي أننا نسير إلى غزة ونشاور نائب غزة في عمل المصلحة فساروا إلى غزة فلاقاهم نائب غزة وأنزلهم على ظاهر غزة وخدمهم فقال له سمك: " نحن ما جئنا إلا لأجل نوغاي وأنه من العريش سار يطلب الكرك فما رأيك نسير إلى الكرك أو نرجع إلى مصر فقال لهم نائب غزة: " رواحكم إلى الكرك ما هو مصلحة وأنتم من حين خرجتم من مصر سائرون وراءهم ورأيتموهم في الطريق فما قدرتم عليهم وقد وصلوا إلى الكرك وانضموا إلى الملك الناصر والرأي أنكم ترجعون إلى مصر وتقولون للسلطان ما وقع وتعتذرون له " فرجعوا وأخبروا الملك المظفر بالحال فكاد يموت غيظًا وكتب من وقته كتابًا للملك الناصر فيه: " إنه من ساعة وقوفك على هذا الكتاب وقبل وضعه من يدك ترسل لنا نوغاي ومغلطاي ومماليكهما وتبعث المماليك الذين عندك ولا تخل منهم عندك سوى خمسين مملوكًا فإنك آشتريت الكل من بيت المال وإن لم تسيرهم سرت إليك وأخذتك وأنفك راغم! " وسير الكتاب مع بدوي إلى الملك الناصر. وأما نوغيه فإنه لما وصل إلى الكرك وجد الملك الناصر في الصيد فقال نوغيه لمغلطاي: " انزل أنت ها هنا وأسير أنا للسلطان " وركب هجينا وأخذ معه ثلاثة مماليك وسار إلى ناحية عقبة أيلة وإذا بالسلطان نازل في موضع وعنده خلق كثير من العرب والترك فلما رأوا نوغيه وقد أقبل من صدر البرية أرسلوا إليه خيلًا فكشفوا خبره فلما قربوا منه عرفه مماليك السلطان فرجعوا وأعلموا السلطان أنه نوغاي فقال السلطان: " الله أكبر! ما جاء هذا إلا عن أمر عظيم " فلما حضر نزل وباس الأرض بين يدي الملك الناصر ودعا له فقال له الملك الناصر: " أراك ما جئت لي في مثل هذا الوقت إلى هذا المكان إلا لأمر فحدثني حقيقة أمرك " فأنشأ نوغيه يقول: أنت المليك وهذه أعناقنا خضعت لعز علاك يا سلطاني أنت المرجى يا مليك فمن لنا أسد سواك ومالك البلدان في أبيات أخر ثم حكى له ما وقع له منذ خرج الملك الناصر من مصر إلى يوم تاريخه فركب الملك الناصر وركب معه نوغيه وعادا إلى الكرك وخلع عليه وعلى رفقته وأنزلهم عنده ووعدهم بكل خير. ثم إن الملك الناصر جمع أمراءه ومماليكه وشاورهم في أمره فقال نوغيه: " من ذا الذي يعاندك أو يقف قدامك والجميع مماليكك! والذي خلق الخلق إذا كنت أنت معي وحدي ألتقي بك كل من خرج من مصر والشام! " فقال السلطان: " صدقت فيما قلت ولكن من لم ينظر في وقال آبن كثير في تاريخه: وصل المتوجهون إلى الكرك إلى الملك الناصر في الحادي والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة فقبلهم الناصر أحسن قبول وكان حين وصلوا إلى قطيا أخذوا ما بها من المال ووجدوا أيضًا في طريقهم تقدمة لسيف الدين طوغان نائب البيرة فأخذوها بكمالها وأحضروا الجميع بين يدي الملك الناصر محمد ولما وصلت إليه الأمراء المذكورون أمر الملك الناصر بالخطبة لنفسه ثم كاتب النواب فآجتمعوا وأجابوه بالسمع والطاعة. ولما عاد الأمراء من غزة إلى مصر اشتد خوف السلطان الملك المظفر وكثر خياله من أكثر عسكر مصر فقبض على جماعة تزيد على ثلاثمائة مملوك وأخرج أخبازهم وأخباز المتوجهين مع نوغيه إلى الكرك لمماليكه وتحلقوا عليه البرجية وشؤشوا فكره بكثرة تخيله بمخامرة العسكر المصري عليه وما زالوا به حتى أخرج الأمير بينجار والأمير صارم الدين الجرمكي في عدة من الأمراء مجردين وأخرج الأمير آقوش الرومي بجماعته إلى طريق السويس ليمنع من عساه يتوجه من الأمراء والمماليك إلى الملك الناصر. ثم قبض الملك المظفر على أحد عشر مملوكًا وقصد أن يقبض على آخرين فآستوحش الأمير بطرا فهرب فأدركه الأمير جركتمر بن بهادر رأس نوبة فأحضره فحبس وعند إحضاره طلع الأمير ألديكز السلاح دار بملطف من عند الملك الناصر محمد وهو جواب الكتاب الذي كان أرسله الملك المظفر للملك الناصر يطلب نوغيه وأصحابه. وقد ذكرنا معناه وما أغلظ فيه وأفحش في الخطاب للملك الناصر وكان في وقت وصول كتاب المظفر حضر إلى الملك الناصر الأمير أسندمر نائب طرابلس كأنهما كانا على ميعاد فأخذ الناصر الكتاب وأسندمر إلى جانبه وعليه لبس العربان وقد ضرب اللثام فقرأ الناصر الكتاب ثم ناوله إلى أسندمر فقرأه وفهم معناه ثم أمر الملك الناصر الناس بالانصراف وبقي هو وأسندمر وقال لأسندمر: ما يكون الجواب فقال له أسندمر: المصلحة أن تخادعه في الكلام وتترقق له في الخطاب حتى نجهز أمرنا ونستظهر فقال له السلطان: اكتب له الجواب مثل ما تختاره فكتب أسندمر: " المملوك محمد بن قلاوون يقبل اليد العالية المولوية السلطانية المظفرية أسبغ الله ظلها ورفع قدرها ومحلها وينهي بعد رفع دعائه وخالص عبوديته وولائه أنه وصل إلي المملوك نوغيه ومغلطاي وجماعة من المماليك فلما علم المملوك بوصولهم أغلق باب القلعة ولم يمكن أحدًا منهم يعبر إليه وسيرت إليهم ألومهم على ما فعلوه وقد دخلوا على المملوك بأن يبعث ويشفع فيهم فأخذ المملوك في تجهيز تقدمة لمولانا السلطان ويشفع فيهم والذي يحيط به علم مولانا السلطان أن هؤلاء من مماليك السلطان خلد الله ملكه وأن الذي قيل فيهم غير صحيح وإنما هربوا خوفًا على أنفسهم وقد استجاروا بالمملوك والمملوك يستجير بظل الدولة المظفرية والمأمول ألا يخيب سؤاله ولا يكسر قلبه ولا يرده فيما قصده. وفي هذه الأيام يجهز المملوك تقدمة مع المماليك الذين طلبهم مولانا السلطان وأنا ما لي حاجة بالمماليك في هذا المكان وإن رسم مولانا مالك الرق أن يسير نائبًا له وينزل المملوك بمصر ويلتجىء بالدولة المظفرية ويحلق رأسه ويقعد في تربة الملك المنصور. والمملوك قد وطن نفسه على مثل هذا وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: " ما أقرب الراحة من التعب والبؤس من النعم والموت من الحياة ". وقال بعضهم: إياك وما يسخط سلطانك ويوحش إخوانك فمن أسخط سلطانه فقد تعرض للمنية ومن أوحش إخوانه فقد تبرأ عن الحرية. والمملوك يسأل كريم العفو والصفح الجميل! والله تعالى قال في كتابه الكريم وهو أصدق القائلين: والمملوك ينتظر الأمان والجواب. أنهى المملوك ذلك ". فلما قرأ الملك المظفر الكتاب خص ما كان عنده وكان سلار حاضرًا فقال له سلار: ما قلت لك إن الملك الناصر ما بقيت له قدرة على المعاندة! وقد أصبح ملك الشام ومصر طوع يدك ولكن عندي رأي: وهو أن تسير إلى الأفرم بأن يجعل باله من الأمراء فإنهم ربما يهربون إلى بلاد التتار فآستصوب المظفر ذلك وكتب إلى الأفرم في الحال بالغرض فلما وصل الكتاب إلى الأفرم اجتهد في ذلك غاية الاجتهاد.
|